الباجي قائد السبسي

بقلم : Nachaz

تاريخ آخر تعديل: 14 أكتوبر 2025

على الأرجح، لم يكن الباجي قائد السبسي، باختفائه من دوائر السلطة منذ نهاية الثمانينيات، وبرصيده الخالي من أي نشاط معارضة للنظام الذي أطيح به في 14 جانفي، ليبرز في مشهد ما بعد ثورة. لكن عندما طالب معتصمو القصبة 2 نهاية شهر فيفري باستقالة محمد الغنوشي رئيس الوزراء منذ نوفمبر 1999، كان هو الذي اختاره الرئيس المؤقت فؤاد المبزع ليحل محلّ محمد الغنوشي.

انتمائه إلى جيل مؤسسي دولة الاستقلال يطمئن حضور الباجي قائد السبسي، كل المتوجّسين من خروج الأوضاع على السيطرة منذ رحيل بن علي. بينما مع رحيل الأخير، تنتهي دورة دكتاتورية دامت 55 عامًا، بما في ذلك حكم بورقيبة، ولذلك، فإن “تابع” الزعيم القديم هو الذي دُعي لإدارة المرحلة الانتقالية الأولى حتى انتخاب المجلس التأسيسي.

كل ما يربط الباجي قائد السبسي بالعالم كان قد تداعى إثر الثورة. فهو ينحدر من عائلة أسير من سردينيا تم تشغيله في قصر الباي عام 1810 كمسؤول عن حفل التبغ (هامش توضيحي)، واندمج مع البلديّة (البرجوازية التونسية) عن طريق مصاهرات زوجية. درس بمعهد الصادقية التي شكلت نخبة الحركة الوطنية. التقى في عام 1951 في باريس، بزعيم الاستقلال المستقبلي، الأمر الذي جعله يصبح محل ثقته.

تم تعيينه مديرًا للأمن بعد محاولة انقلابية قامت بها مجموعة من المعارضين انتهت محاكمتهم باثني عشر عملية إعدام في 24 جانفي 1963. لكنه برأ نفسه إذ يقول قائد السبسي أنه “تم التعامل مع القضية من قبل وزارة الدفاع [… ] حتى صدور الحكم ” . ولكن تحت سلطته أيضًا قضى المحكوم عليهم بالسجن ثماني سنوات مقيدين في أقبية بدون إضاءة. 

عندما يتم إبراز الطابع الاستبدادي والقمعي للنظام، يكون الباجي قائد السبسي دائمًا في قلب الجهاز الأمني. حتى أنه أصبح وزيراً للداخلية في جويلية 1965. وكان في هذا المنصب، على وجه التحديد، عندما تم القبض على “مناضلي حركة برسبكتيف” وتعذيبهم وإدانتهم من قبل محكمة استثنائية منذ عام 1968 عندما يتحدث عن دوره خلال هذه الفترة. يعتبر السبسي أنه لم يكن سوى مجرد وسيط عاجز بين “تعنّت” الزعيم ووحشية المنفذين.

بعد رفض بورقيبة تنفيذ قرارات مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري في المنستير عام 1971، والتي كانت تهدف إلى دمقرطة الحزب الواحد، ابتعد عن السلطة ونأى بنفسه عن معلمه. وقد كتب في عمود صحفي نُشر في لوموند في جانفي 1972 “أتمنى أن ينتهز […] فرصة وشيكة ليثبت نفسه أمام التاريخ كرجل لم يجد فقط بناء بلده، ولكنه أيضًا وقبل كل شيء فهم التطورات الحتمية وأخذ زمام المبادرة لضمان عمل البلاد من أجل الاستدامة من خلال التقدم والانسجام “، . وهكذا، خطّ دون أن يدرك نهاية حياته السياسية.

على عكس “الليبراليين” الآخرين، فهو لم يناضل في صفوف المعارضة. حتى أنه عُرض عليه، في أفريل 1980 العودة إلى الحكومة مجددًا. عام 1981 انتخب نائبا عن دائرة تونس. لا عبادة بورقيبة ولا قمع انتفاضة الخبز عام 1984 سيضعان أدنى مسافة بين باجي قائد السبسي والحبيب بورقيبة. على العكس من ذلك، أصبح مرة أخرى رجل القصر. لدرجة إثارة غيرة قاتلة خلال فترة الصراع على خلافة بورقيبة. ليترك منصبه في سبتمبر 1986.

تحت رئاسة بن علي – 1990 إلى 1991 – كان رئيسًا لبرلمان يضم في مجمله أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي بعد تزوير الانتخابات، وعضواً في اللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي من 1988 إلى 2003 قبل أن يعود إلى مكتب المحاماة الخاص به. دون أن يعبّر يوما، حتى عام 2011، عن أدنى مطلب ديمقراطي، ولا أدنى انتقاد علني لما حدث حينها.

ولئن تمكن اسمه من الصعود في عام 2011، فذلك لأن الانتفاضة والمعارضة الديمقراطية لم يكن لديهما اقتراح قوي بما يكفي لفرض بدائلهما وخياراتهما.

 في التوازن بين ديناميات القطيعة وجمود القوى المحافظة، كان للثاني الحظ الأوفر. يمكن النظر إلى الباجي قائد السبسي على أنه تجسيد لنقطة توازن كان من الممكن أن تكسر بعدها قوى النظام القديم المنظمة الحركة. فعندما أصبح رئيسًا للوزراء في فيفري 2011، لم يكتفِ فقط بخبرته في تسيير دواليب الدولة ومهاراته التكتيكية، بل تسلّح برؤية سياسية على رأس الحكومة.  كي نجد الباجي قايد السبسي وسيطا مصمما على تقليل حدّة تغيير النظام وإدراجه ضمن السردية الوطنية.

.

كانت الفترة الانتقالية التي سبقت انتخاب المجلس التأسيسي لا تزال مشحونة بعدد من الصراعات المحتملة: بدءًا بالشروع في تغييرات صلب وزارة الداخلية، وإزاحة القضاة الأكثر تواطئًا مع النظام القديم، وتقويض المنابر الإعلامية التي أقيمت في عهد بن علي. وإنهاء التحالفات بين السياسة وعالم المال …

بعد أيام من انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، جاء بفكرة حركة سياسية لمواجهة الهيمنة المستمرة على ما يبدو لحركة النهضة. وفي الأسابيع الأولى من عام 2012، روجت حملة إعلامية لفكرة أنه سيكون الرجل المختار الذي ينتظره التونسيون. ُ أنشأ “نداء تونس” في ربيع عام 2012، ونصب وهو يبلغ 90 عامًا تقريبا.

التوترات الاجتماعية، ضغوط حركة النهضة لتوجيه صياغة الدستور نحو منحى إسلامي، اغتيال شكري بلعيد في 6 فيفري 2013، ثم اغتيال محمد براهمي في 25 جولية، والانقلاب في مصر في 4 جويلية، كلها تراكمات سمحت لنداء تونس للاستفادة من السخط والتشنجات. وساهمت في وضع الباجي قائد السبسي في موقع قوة للتفاوض مع النهضة محاورا محنكا قادرا على توجيه القوى المعادية وإدامة اندماجها ضمن النظام السياسي القائم.

أدى لقاؤه في باريس في أوت / أغسطس 2013 مع راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، إلى دخول تونس إلى انتقال تونس إلى منطق الميثاق. بعد خمسة أشهر من الأزمة، نجح الحوار الوطني في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2013 في تحقيق أقصى حصيلة وذلك بتحقيق الاستقرار.

 حتى لو كان يريد طريقًا أسرع للوصول إلى السلطة وتدعيم نفوذه (مثل إقصاء منصف المرزوقي من الرئاسة أو تكليف مجلس أعلى للدولة بالسلطة في حالة عدم التمكن من ذلك)، فإنه قد غنم فرصتين: من ناحية، إسقاط مشروع قانون ما يعرف باسم “تحصين الثورة” الذي كان يقضي بمنع جميع الكوادر السابقة في التجمع الدستوري الديمقراطي من النشاط السياسي؛ من ناحية أخرى، رفع سن الترشح للرئاسية إلى 75 عاما، المنصوص عليه في مسودة الدستور. وهذا ما بسط أمامه الطريق إلى السلطة.

في ديسمبر 2014 انتُخب رئيسًا للجمهورية التونسية بنسبة 55.68٪. وعلى عكس ما كان يأمله قسم كبير من ناخبيه، فقد واصل العمل بذات الميثاق والاتفاقية المبرمة مع النهضة والتي تضمن للحكومة، مع وجود نداء تونس، الأغلبية البرلمانية ب 155 مقعدًا من أصل 217. تلميذ بورقيبة الذي يحلم بالمصالحة بين الدولة القوية والدولة الديمقراطية. ستتحول الفرصة إلى متاهة.

سوف يذكر التاريخ حكمة رئيس الدولة الذي حقق الاستقرار في بلاده في فترة مضطربة جغراسياسيًا، خاصة، في عام 2015، عندما أدت سلسلة من الهجمات الإرهابية إلى الضغط على التحول الديمقراطي؛ بإقحامه في فخ التطبيع مع النهضة.

في جوان 2016، أعيد تنصيب تمثال الفروسية للحبيب بورقيبة – الذي أزاله بن علي ووضعه عند مدخل ميناء حلق الوادي – في وسط تونس. لكن هل ما زال الطوطم [الرمز المؤسس للدولة] قوياً بما يكفي ليلهم الحاضر؟ هل سيجد تواصلا مع عقول قوية لها رؤية واضحة للمستقبل؟

 طالما أنه لا يوجد إصلاح اقتصادي أو اجتماعي كبير، فلن يحدث أي تطور وتجدد للعلاقة بين الدولة والمواطنين خلال فترة ولايتها البالغة خمس سنوات، لأنه لم يكن حاملًا لأي إصلاح مهم مستوحى من الثورة التي لم يرى فيها “سوى الثأر والكراهية”.

فالإصلاحات التي تتوخاها الحكومات المتعاقبة ليست وحدها التي تعمل على إطالة أمد النظام الاقتصادي الحالي فقط، بل يضاف إليها مقاومة رؤوس الأموال لأية محاولة انفتاح وتغيير.

سيظل التاريخ يذكر أنه لم يقبل أبدًا مبدأ العدالة الانتقالية، التي تعتبر أداة لمواجهة ومساءلة الماضي. وهو ما رفضه دائما. على العكس من ذلك، سيحاول في آذار / مارس 2015 تمرير قانون ينص، تحت غطاء “المصالحة”، عن العفو على رجال الأعمال والموظفين المسؤولين عن الجرائم الاقتصادية التي ارتكبت في ظل النظام السابق، والتي ستفضي بعد سنتين من الجدل إلى قانون “المصالحة الاقتصادية”.

أما بالنسبة لنداء تونس، القوة السياسية التي كان يأمل في إدامتها كنسخة ليبرالية من الحركة الدستورية، فبقدر ما كانت خالية من أي رؤية، كانت أيضا مشبعة بطموحات المنافسة، ولا سيّما الطموح ابنه حافظ قائد السبسي، للحفاظ على السيطرة على الحزب.

واضطر الباجي قائد السبسي أن يضاعف المحاولات الرامية لإبقاء نفوذه، مما أدى إلى إضافة توتر لتحالف كان يفترض أن يجعل تبني الإصلاحات أكثر مرونة، وذلك بسبب إضعاف معسكره آليا لصالح النهضة. وبتعيينه يوسف الشاهد الشاب رئيسًا للحكومة، في جويلية/ يوليو 2016، والذي كان يعتقد أنه سوف يكون مخلصًا. فقد دقّ أول مسمار في نعش نداء تونس في السلطة. هذه الصراعات السياسية على القمة سوف تمتص معظم طاقة من هم في السلطة.

وكي يدخل التاريخ على خطى بورقيبة، أعلن الباجي قائد السبسي في 13 أوت 2017 على رغبته في تحقيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وشكل لجنة مسؤولة على دراسة مدى توافق التشريعات مع القواعد الدستورية الجديدة في مسائل الحرية والمساواة. لكن تقريره الذي تقدم به في العام الموالي لن يرى النور. سيكون إلغاء الأمر الصادق عام 1973 الذي يقضي بمنع زواج التونسية بغير المسلم النتيجة الملموسة الوحيدة لهذه الخطوة.

ترجّل الباجي قايد السبسي في 25 جويلية 2019، في الذكرى السنوية لتأسيس الجمهورية  الأولى عام 1959، في مناخ من الانحلال السياسي.

لقد تمكن حقا من تسيير الانتقال الديمقراطي، ولكنه تركه دون مرجع في ظرفية تختلف تماما عن عصر الاستقلال الأول.