عبدلية
«ما من رأي إلاّ وبدا لي تافها، ومخجلا، طالما لم تُعَدْ صياغته فورا، وتُوضَّح فواصله، وتُدقَّق تفاصيله، بل ربّما وجب دحضه من خلال الإطار التجريبي للشخص الذي يعبّر عنه»
فيليب لانسون، Le Lambeau
الوقائع
جوان 2012: متظاهرون يجتاحون قصر العبدلية بالمرسى لتخريب أعمال فنية معروضة بداخله وتشويهها بدعوى «مساسها بالمقدّس». زعيم القاعدة، أيمن الظّواهري، يطلق نداء للخروج عن الحاكم في تونس. مظاهرات تخرج في جميع أنحاء البلاد في يوم واحد. إعلان حظر التجوّل. إغلاق العبدلية وإنهاء المعرض. وزير الشؤون الدينية، نور الدين الخادمي، يندّد بالتظاهرة، ووزير الثقافة، المهدي مبروك، يطالب بمقاضاة منظّميها (حدّاد، 2018).
مع عودة الهدوء، سارعنا إلى نسيان الحدث. لقد بقينا لعقود من الزّمن نتخلّص من المخاوف الاجتماعية التي تنخر كيان البعض، وتشلّ البعض الآخر، وتحفر هوّة بين الأشخاص والأفكار.
هكذا سارعنا أيضا إلى إسدال غشاوة على عنف العبدلية، وتخريب الأعمال الموصومة بالكفر، وإحراق أقسام الشرطة، وحظر التجول، ورفع وزير الثقافة شكوى ضد الفنانين. مثلما فضلنا نسيان حادثة برسيبوليس والمرافعات الهستيرية للمحامين ضدّ قناة نسمة، وتخريب قاعة سينما أفريكا بسبب عرض شريط نادية الفاني. ومع ذلك، فإنّ هذه المواجهات حملت في طياتها بداية نقاش أساسي للتغلب على سوء الفهم والأحقاد التي تقتات من فقدان الذاكرة، وتتغذى من المسكوت عنه.
بدأت البحث عن ذكرى تلك الأيام من حيث دفنتُها بين خوفي العميق من الغباء وقناعتي بأن الحوار يصنع المعجزات، إذ يكفي أن نجد لغة مشتركة لتأسيس هذا الحوار حتّى وإن كان الأمر صعبا، وهو فعلا كذلك في مثل هذه الحالة لأن الأزمة اندلعت، تحديدا، جرّاء التقاء خطابين من طبيعة مختلفة رغم أنّ كِليهما يتوجّه إلى المشاعر: الخطاب الديني من جهة وخطاب الصورة من جهة أخرى، بيد أنه يصعب أن ينير الواحد الآخر لأنّ الأوّل يَنْهَى عن الثاني.
لأسباب عميقة تتعلق بوضعي الأُسري المعقّد، تعلّمتُ السباحة مبكّرًا في المياه العكرة، وحذقت تجنّب التيّارات القوية والحفاظ على توازني وسط الزّوابع وتأجيل المخاطر حتى لو تطلّب الأمر، أحيانا، أن تؤول إلى الأسوأ. ثمّ تمكّنت في وقت لاحق، بعد أن اخترت التعبير عن ذاتي من خلال فنّ صامت في بلد لا يُنصح فيه بالكلام، من الإبحار بنوع من السّهولة (بل وحقّقت بعض النجاح)، في المياه الراكدة لتونس التي لم تخل من المفارقات في سنواتها البنفسجية حيث كان الفنانون يحظون بالتشجيع طالما نأوا بأنفسهم عن السياسة، وكان يُحتفى بالنساء طالما لم يكنّ ديمقراطيات. ومن باب الصّدفة، أو من حسن حظّي، أنّ البرجوازيات، المترعات خدرا ومللا، واللاتي كنت أرسمهنّ وهنّ ينشرن كآبتهنّ داخل الصالونات المريحة، لم يكنّ مصدر إزعاج لأيّ كان. لقد كنّ حالمات أكثر من اللّزوم لتصدُر عنهنّ أفعال أو تحرّكات ما، وصبورات أكثر من اللزوم ليكنّ مصدر إزعاج. وباختصار، كنّ من صفوة الأغلبية الصامتة، مثلي تماما… أي من نوع اللاتي يعتقدن أن الأمور يمكن أن تسير إلى الأفضل بقدر ما يمكن أن تؤول إلى الأسوأ.
وفعلا فقد بدا لنا أنّنا تجنّبنا الأسوأ مع بدايات الثورة. كانت حرية التعبير تنبعث من كلّ حدب وصوب، وبدا أنّ الديمقراطية والكرامة شيئان لا ينفصلان عن بعضهما البعض سواء في الشوارع أو على شبكات التواصل الاجتماعي. وتراءى لنا أنّ «الأفضل» كان عليه الانتظار حتى ندفع فاتورة الصمت والإغفالات السابقة، تلك المتعلقة بالقطيعة السيميولوجية (أو الدّلالية) لزمن ما بعد الاستقلال، والتي يحدوني شعور بأننا مدينون له، من بين تجسيدات أخرى للإشكالات المؤرّقة للهوية، بمظاهر العنف التي شهدتها العبدلية.
لقد قيل الكثير عن افتقار بورقيبة إلى الحَصَافَة أو الكياسة تجاه الزيتونيين، وعن العواقب المترتّبة عن عودة المكبوت الديني المفترض، ولكن لم يُذكر الكثير عن ازدراء الزعيم للأشكال التقليدية للتعبير الفني والحرفي، وعن الرجّات النّفسية غير المقصودة المترتبة عن هذا الاحتقار في مجال الصورة التي نحملها على أنفسنا. لأن بورقيبة، أيّام كان أب الأمة دون منازع، كان يُصبغ شخصيته على كلّ شيء وعلى الجميع، ويحدّد التوجّهات، ويقف سدّا منيعا أمام الرياح المعاكسة بفضل القوة الرهيبة لخطابه. لكنّه بقدر ما كان مثقّفا وملمّا بالأدب، لم يكن، للأسف، ينظر إلى فنون الصّورة سوى بعين العقل الصّرف، حيث لم يكن يعتبرها طريقًا إلى المعرفة، بل لا يرى منها، في أفضل الأحوال، سوى قدرتها على الدعاية، ولم ينظر إلى حِرَفِنا التقليدية وفنوننا الشعبية سوى كنوع من بقايا مهارات عتيقة يجب التخلص منها للدخول مباشرة في الحداثة من بابها الكبير…
هكذا دخلنا الحداثة بأرجل عرجاء ونحن نتلمس تلمّس الكفيف أشكالًا جديدة بأيادٍ لا ذاكرة لها بعد أن قطعنا خيط التمثّلات الذهنية القديمة التي نمت فينا وتطوّرت ببطء منذ العصور الغابرة لتشكل الحمض النووي الجمالي داخل ذواتنا. صرنا نصنّف في خانة الماضي فنون التّطريز، والنسيج، وصناعة الفخار، وننظر إليها كمجرّد بضاعة تباع للسوّاح. وأنزلنا من قيمة الأشكال التي وُلدت من الحركات واللمسات التي طالما رافقت، طبيعيا، تجربتنا الحياتية، كما قلّلنا من قيمة مجموع الصّور اليومية التي تُغذّي حواسنا، وتنمّي فينا اللّاشعور الجماعي بأيقونوغرافيا يجد فيها كلّ منّا نفسه، تماما كما يرى المرء انعكاس صورته في المرآة بكلّ ما تحمله تلك الصورة من تغييرات غير محسوسة طبعها الزمن والتطور الطبيعي للأشياء. وفي كلمة، وقع الحطّ من قيمة تمثّلنا للعالم.
أذكر، وأنا طفلة، جاذبية كل ما يأتي من أوروبا، واحتقار كلّ ما هو محلّي. ويبدو لي أن هذا الاحتقار كان من المشاعر الأكثر تقاسما بين الجميع. ففي الوقت نفسه الذي استعدنا فيه سيادتنا، تعلمنا فيه التّعالي عن طريقتنا في استيعاب الجمال وأصبحنا غرباء عن أنفسنا… وغيّبنا ما كنّا نعرفه عن موادنا وألواننا، ونسينا الاحترام، إلى درجة صنعنا معها، من فنوننا التطبيقية، مجرد محاكاة لبضاعة لا روح فيها، وأشياء مجردة من وظيفتها في التعبير عن حضارة ما.
وإذ أُؤكّد على تلك البدايات المشوّهة فلقناعتي التامّة بأنّ إليها يعود زمن الذّوق الرديء الذي ساد بلادنا منذ الستينات وصولا إلى الذروة البنفسجية التي عرفناها في ظلّ بن علي قبل أن تشتعل باقة الألعاب النارية للثورة. بدا لي أنّ هذه الكارثة الدّلالية اللاإرادية، والتي ما فتئ العنف الصّادر عنها يمزّقنا، لم تُنجب سوى ذلك القبح الذي يأبى مغادرة مشاهدنا الحضرية، ودواخل بيوتنا، ومنوّعاتنا التلفزيونية، وأنّ تلك الرجّة النّفسية الأولى ما فتئت تُقوّض علاقات شعب بأكمله بالصورة التي يحملها عن نفسه بحكم العُقد، والشعور بالذّنب، والتمثّلات المُحبطة للمعنويّات، وتقوده، رويدا رويدا وعلى نحو مؤلم، إلى تخريب الأعمال الفنية المعروضة بالعبدلية، في جوان 2012، لأسباب تتجاوز الدّواعي الدينية أو السياسية. فكلنا يعلم أن الخطابات المتعصّبة تلتقط فقط الموضوعات التي تثير إشكالات الهوية. فالحطّ من قيمة منتوجاتنا، ومن تصوّراتنا لأنفسنا، ومن شعورنا المجعّد، هو نوع من تهيئتنا لكراهية صورتنا في المرآة ونفورنا من المرآة ذاتها، أو بالأحرى كراهية مرآة لا تطاق، تلك التي يضعها أمامنا فنّانونا.
في ذلك اليوم المشهود، عندما خرجت للتعبير عن تضامني مع مجموعة الفنانين الذين استهدفتهم الدّهماء السلفية (ومن ورائها القوى المتعاطفة معها)، حاولت قدر الإمكان أن أضع نفسي مكان رماة الجمرات وأنا أستعرض الأعمال الفنية المتهمة. تخيلت نفسي أدخل بحذر وسط فضاء يتصاعد منه بخار كبريتي ويوصف بكونه معبدا للفجور، وأتلقّى، فجأة، سيلًا من الصور، كل واحدة منها مشبوهة أكثر من مثيلتها، صور تنبعث منها سخرية صامتة، علاوة على عدم قابليتها للفهم واستعصائها على الإدراك بدرجة مرعبة.
أفَليس في ذلك أكثر من مبعث للغضب، أن يجد الواحد نفسه قاصرا عن الفهم، ويغمره شعور بالإقصاء، وأن يستشفّ في أدنى تفاصيل لون الجسد معالم الفجور مع كل تقابل بين صورة وسورة؟
كنت أتنقل بين اللّوحات المعروضة، وأنا أقول في نفسي بأن هذا الفضاء الشبيه ببرج بابل، والذي يضع وجها لوجه فنّانين لكلٌّ منهم لغته الخاصة، وزوارا صامتين تعسر عليهم لغة الرسم والصورة، لن تتوفّر لديه أيّة حظوظ للإقناع ببراءته. ثمّ مع كلّ خطوة إضافية يكون الغموض، في ذهن الإسلامي الذي تقمّصته، ويزداد كثافة، وأنا أشعر بتصاعد الغضب داخلي انتصارا لإسلامي المتخيّل وأنا أسحب عليه، أو أرى تجسّده، في كل الوجوه المرتابة والنظرات الحائرة التي قابلتها منذ طفولتي كلّما تعلق الأمر بالحديث عن عمل فني. تعابير وجوه وإيماءات ونظرات بمثابة علامات استباقية وخيوط غير مرئية تحمل في طياتها إعلانا مسبقا عن محرقة 12 جوان وأحداث العنف التي عقبتها. فبين السلفي الذي استلفته لأرى الدنيا بعينيه وأدنى لوحة معروضة هناك أكثر من خطوتين بل ربّما أكثر من باب موصد بداية من كلّ تلك المواعيد التي تخلّفنا عنها في نظامنا التعليمي، والفرص التي فوّتناها على أنفسنا، أو فوّتوها علينا، في الوقوف من الفنّ وأشياء الدنيا موقف الاندهاش والتأمّل والاستمتاع عوضا عن اليقينيات التي ما فتئ الكهول، غير النّاضجين بدورهم، يتهجوّنها ويردّدونها علينا في إطار اختيارات تعليمية عبثية. فأن تُعلّم الأطفال كيف يحلُمون هو اختيار سياسي بالدّرجة الأولى، وأن تمنعهم من ذلك هو أيضا اختيار سياسي لكنه مغاير. فبِنْتُ برسيبوليس الصغيرة أشعلت الفتيل عندما حلُمت بربّ صالحٍ ومنحته وجهًا ملموسا. ومرّة أخرى، بين السلفي، الذي استلفته لأرى الدنيا بعينيه، وبين الأعمال الفنية، خوف من وجه المحظور، ورعب من كلّ ما هو غير مرئي.
لو شجعنا أطفالنا في المدارس على الإبداع وجنّبناهم الاستنساخ الذي يلقّنهم إيّاه مدرسون غير مدرّبين حتّى على أبجديّات الرّسم، ويعطّلون فيهم أدنى روح للمبادرة، ويصدّون عنهم بوادر الجرأة والابتكار … ولو علّمنا صغارنا متعة استخدام رؤيتهم الخاصّة لإدراك الأشياء بعيونهم، وفرحة الإحساس بالمشاعر الفنية، وتذوّق طعم الأشياء التي تعجز عن وصفها الكلمات، لكنّا حميناهم أكثر ضد متاهات المجهول، ومنحناهم مفاتيح عالم ما فتئت تحلّ فيه لغة الصورة والرموز (الأيقونوغرافيا) محلّ الكتابة في جميع وسائط الإعلام والمعرفة، وحيث يتعين فيه، أكثر من أي وقت مضى، معرفة كيفية قراءة الصورة. فالطريقة الوحيدة للحصول على مواطنين متناغمين مع بيئتهم هي أن نعود إلى حيث هجرنا تقاليدنا في مجال التمثلات التي يترتّب عنها إعادة تثمين صورتنا من خلال صورة إنتاجاتنا.
وإذا كان هناك من خيط لا يزال قائما في تقاليد الفنون التشكيلية فهو ذلك الخيط الرفيع للرسم على الزجاج باعتباره شكلا من أشكال مقاومة الرّسم الاستعماري والاستشراقي، ولعلّه التعبير الحيّ الوحيد الذي واصل تجديد نفسه دون أن يسقط في التكرار أو الاستنساخ. ففي إطار الموضوعات المدرجة عن حياة الرسول أو القرآن، يقدّم هذا النوع من الفنّ عالمًا كاملاً من الحريات والإبداعات التي تشهد على عافيته. وعلى حدّ علمي، فإنّه لم يصدم أحدا حتى يومنا هذا رغم وجوده في أجزاء من المدينة الأبعد عن المعارض الفنية …وربّما لمجرّد أنّه كان دائمًا هناك، فلا أحد وضعه موضع التساؤل. أعتقد أن في بعض النّقمة على الأعمال الفنية وتخريبها، وبصرف النظر عن كونها تنفيذا لأوامر سياسية وردت عليهم دون ريب، تعبيرا عن غضب أولئك الذين أرادوا تخريب الصورة، ليس بصفتها تدنيسًا للمقدسات بل، لأنهم لم يتمكنوا، في الأساس، من النّفاذ إليها لأن صمت العمل الفنّي قد يدفع إلى الصّراخ شخصا يقف أمام هذا العمل ولا يجد منفذا إليه. فكأنّ العمل عندما لا يحدّث الشخص يعني أنّه يتجاهله أو يقف منه موقف اللامبالاة ولا يأخذ بعين الاعتبار وجوده أصلا.
وأنا متأكدة من أن السّلفي الذي أشعل النّار في «الفتاة-كيس التمرّن» (La femme punching-ball ) لفاتن ڤدّاس، إنّما أراد كسر تلك المسافة التي لم يستطع تخطيها بينه وبين العمل الفنّي ومعاقبة التنصيبة لما لمسه منها من لامبالاة وتعال أكثر من معاقبته جرأة الفنانة. أما بالنسبة لتنصيبة التلميذ الحالم لمحمد بن سلامة وهو يحمل حقيبة مدرسية يتساقط منها سرب من النّمل في شكل حروف عربية، في إشارة إلى شخصية «عقلة الإصبع»(Le petit Poucet) وكأنّه يرشد الطريق أو يحيل إلى دروس التربية المدنية والدينية، فهي تعني، في قراءتي الشخصية، إدانة لنظام تعليمي يسوده النّفاق والمعارف الزائفة أكثر من كونه مساسا بالمقدّس. هذا النظام التعليمي الذي يعوّض التفكير بحشو الأدمغة، ويعاقب المبادرات، ويخنق الإبداع، قد حرم أجيالًا من التونسيين من الاتصال بالفن منذ طفولتهم ودعوتهم إلى التأمل والحلم بالمجتمع الذي يريدون وتصوّره كمثال يرتجى. بل الذي حدث أنّنا أخضعنا أطفالنا للمتلاعبين بعقولهم من خلال حجب جمال العالم عن أنظارهم.
بنت برسيبوليس الصغيرة جمعت حولها كلّ الرّافضين لحرية الضمير، وكانت، دون إرادتها، عاملاً محفزًا للتصويت لصالح النهضة عام 2011 … في حين أنّ تلميذ بن سلامة بدأ مسيرته نحو الحرية منذ 10 جوان 2012 وسيواصل سيره في طرقات غير معبّدة.
عند مغادرتي المعرض، قلت لنفسي بأنه على الرغم من الجوانب المأساوية للوضع، والقائمات السوداء، واللعنات التي طالت معشر الفنانين، هناك أخيرًا شيء ما أساسي لصالح الفنون قد حصل، شيء تجاوز مسألة وظيفتها ليطرح مكانة الفنان في المجتمع على نحو علني على مدى البلاد. وقد وصل التساؤل إلى الشوارع والمساجد والمقاهي الذكورية، وبلغ، أخيراً، إلى كلّ الذين لم يكن بإمكانهم النّفاذ إليه. أكيد أن الإشكال طُرح في شكل فضيحة، وافتراء، وبطريقة ملتوية، ومبتورة، وفي صياغة خاطئة ولكن متى طُرح إشكال من تلقاء نفسه بوضوح ووداعة؟