بورقيبة أو شبح المسرح السياسي
لنكن واضحين منذ البداية: لا علاقة للثورة التونسية ببورقيبة؛ وهي ليست، بأيّ حال من الأحوال، إلهامابورقيبيا. فالصورة شبه التوافقية السارية اليوم لـ «أب الأمة» كانت في نظر المتمرّدين ، وفي أفضلالأحوال، أقرب إلى الأسطورة البالية والبعيدة، يستحضرها كبار السن أو تدوّن على الصفحات المصفرّةللكتب المدرسية… لكن، بعد الثورة بقليل، وتقريبا منذ اندلاع معركة «اللائكية والإسلام السياسي»، أو«الحداثة والمحافظة»، أو تَشكُّل «ظاهرة القبّة»، شهدنا عودة شبح بورقيبة راكبا حصانه (أي بورقيبةالزّمن الأوّل) ليخيّم على «الطبقة السياسية» الجديدة التي ورثت، لفترة معينة، المصير السياسي للبلاد،وفُتحت صفحة معركة رمزيات دار رحاها حول تمثال بورقيبة العائد إلى باب العاصمة وقد رأى فيهالطرف الآخر صنمًا يُنبئ بعودة الجاهلية.
وفي الواقع، فإنّ بورقيبة قد تسرّب إلى الساحة بحكم استحضاره باستمرار سواء كضديد يُستنصر به علىسبيل المقارنة والحطّ من ورثائه، أو كذريعة، أو في نهاية المطاف كأيقونة ترمز إلى توافق غير مؤكّد.يكفي القول بأن اسم بورقيبة قد استُخدم لأغراض تذكارية وسياسية مختلفة للغاية.كان اللجوء، أوّل مرّة، إلى أوّل رئيس للجمهورية التونسية باعتباره المرجع المطلق لفكرة الرئاسةوكمعيار لقياس ممارسة هذا المنصب. على ضوء هذا الاستعمال المقارن، الذي كان ساريا سواء لدىالنخبة السياسية أو في الأوساط الشعبية أو في حديث العامّة كما في كواليس الأوساط الضيّقة، يظهر بنعلي، بأثر رجعي، في صورة الذي باع البورقيبية بأبخس الأثمان، أو في صورة «أوبو الملك» الذيأطاح بسابقه قبل أن يهرب من البلاد بسبب الورطة التي وضعته فيها زوجته، أو مثل بروتوس الذي طعنسيده في الظّهر. وإذا بالنظام الرئاسوي الذي وضعه بورقيبة يصبح مقبولا بل مرغوبا فيه مقارنة بنظامبن علي.
ومن سوء حظّ الرئيس محمد المنصف المرزوقي أن جاءت به الأقدار وتقلبات السياسة إلى كرسيّالمقارنة بصفته أول رئيس دولة منتخب بعد الثورة (ولو بشكل غير مباشر)، فسرعان ما بدا وكأنّه يطفوأو يتعثّر في ثوب رئاسي قُدّ على مقاس غيره. كانت جميع شطحاته وتخريجاته تُقارن مباشرة بحصافةبورقيبة وحنكته ودهائه السياسي. وطبعا، فقد تكفّل الحنين إلى الماضي (مع جرعة لا بأس بها من سوءالنية لدى الأطراف الأكثر بورقيبية) بترتيب الذكريات والتعتيم على وجه الظلّ من البورقيبية.أما بالنسبة للباجي قائد السبسي، فسوف يدفع بدوره ثمن عودة شبح بورقيبة، وإن بطريقة أخرى ولأسبابمغايرة. فمع نهاية حالة النشوة التي عرفها بعد فترة الانتصارات العابرة وإطنابه في استعمال مختلفأوجه تقليد الزّعيم وتقمّص شخصيته لتشييد صورة الوريث المثالي لـ «المجاهد الأكبر»، انقلب السّحرعلى السّاحر سواء عبر شبكات التّواصل الاجتماعي أو في تعليقات السياسيين حيث عقبت المهزلة المأساةكما تقول العبارة القديمة لماركس..
فبالنسبة لمريديه وأحبّائه، يعتبر بورقيبة مرجع الأصالة التونسية التي لا يمكن أن تنال منها خيانة بنعلي، أو التصرّفات الغريبة للمرزوقي، أو حتى محاولة قايد السبسي تقمّص شخصيته. ونظرا لتشابكمحاور المعارك وتداخلها بين الحداثة والديمقراطية والأصالة التونسية إلخ، من جهة، والمحافظة، وأسلمةالمجتمع، وإدراج تونس ضمن خارطة تتجاوز حدودها التاريخية الحديثة «الطبيعية» إلى فضاء إسلاميأو عربي، من جهة أخرى، فإنّ شخصية المجاهد الأكبر أصبحت تُستحضر، في خلط بين الحداثةوالديمقراطية، كأحد كبرى عناوين الديمقراطية الناشئة، وزجّ بالرّجل في معركة ديمقراطية وحريات لاناقة ولا جمل له فيها بقطع النّظر عمّا قدّمه إلى البلاد في مجالات كثيرة أخرى.
وفعلا، فقد ظهر، مع تراجع المدّ الثوري، نوع من البورقيبية الهلامية انتشر على نحو مبثوث فيالمجتمع. كما لو أن بورقيبة قد أصبح بعد وفاته إيديولوجيا في حدّ ذاته ومنظرا لديمقراطية «معقولة»ومعدّلة من أجل استرجاع دولة النظام القديم من الهدم الذي أصابها زمن بن علي، وسحبها من قبضةالإسلاميين، عملا بنظرية الأمير سالينا في رواية «الفهد»: «كل شيء يجب أن يتغير حتى لا يتغيرشيء». فلا اعتراض على الثورة طالما كانت مبتورة من كلّ مشروع اجتماعي يقطع مع اللبرالية الرثّة.والحقيقة أنّ ما بعد البورقيبية لا تتّسع بما يكفي لاحتضان «أهداف الثورة» أو الاستحواذ عليها، فهيليست أكثر من حالة خطابية أو غدير اجتمعت فيه المياه الآسنة إثر الجزر الذي شهدته الإيديولوجيات.بعد انهيار تجربة «نداء تونس»، بقيت المكوّنات «الليبرالية»، رغم تشرذمها الدائم، مجتمعة حولشخصية رب الأسرة لتونس المستقلة. وحتى بالنسبة لجزء من اليسار الذي أنهكته تراجعاته وتخلّيه عنعدد من مبادئه ومراجعه الخاصة، سوف يجد في البورقيبية محملا نحو «سياسة الممكن» حيث أصبحشعار الساعة والضرورة الملحة، المصالحة داخل «الأسرة الحداثية الكبرى» حول الدّعامة التي لا يجوزالحيد عنها ألا وهي «الاستثناء التونسي» مجسّدا في ثلاثيته المثالية: الدّولة الاجتماعية القديمة (مختزلةفي حدّها الأدنى)، ومدوّنة الأحوال الشخصية، والعلمانية بصفتها الإنجاز غير المكتمل لـ «المجاهدالأكبر». هكذا يسعى ما يسمى «بالقوى الوسطية الكبرى» إلى الاستناد إلى هذا التراث، للتمكّن منالوقوف في وجه الإسلام السياسي الذي يهاجم «حداثتنا».
بالمقابل سوف ينتهي الأمر بالإسلاميين أنفسهم إلى التخلي، تدريجيا، عن شيطنة «الزعيم» بحثًا عنالتطبيع، فالإجماع يفرض الإقرار بزعامة الزعيم الراحل والعدو القديم بما معناه: «لندع الموتى يدفنونالموتى» ولنلتفت إلى أشياء أخرى.إنّ التوافق معركة في حدّ ذاتها … لكنّها خاسرة مسبقًا، لأنه ما إن تكاد ترتسم ملامح التحالفات الظرفية،حتى تبدأ المجموعات المرتبكة، الدّاعمة لحكومات قادرة بالكاد على إدارة الأزمة ولا تتقن غير فنونالتأجيل والإرجاء بتعلّة انتقال لا ينتهي أبدًا، في التفكّك وترحيل التسوية الكبرى إلى غياهب النسيان …هكذا نرى كلّ تلك الوجوه، سواء البورقيبية القديمة منها أو الجديدة أو ما بعد البورقيبية المكفّرة عنذنوبها، تنسحب رويدا رويدا مع مرور الزّمن… في المقابل نشاهد الأجيال الجديدة تكبح جماحها أمام عتبةالسياسة حتى لا تدخلها من نفس الأبواب المهترئة، وتتجه للانخراط في مناطق أخرى مثل الحركاتالاجتماعية الجديدة، والتعبيرات الثقافية الجديدة أو… التصويت لقيس سعيّد. والغريب في الأمر أنّ شعار«عودة بورقيبة» يبدو غير ذي فاعلية في إدراك هذه الظّاهرة الأخيرة حيث يقف المعلّقون وأصحابالقرار مذعورين من الشعبية الجامحة للرئيس الجديد وكلّهم يعتبرونه شخصية غريبة الأطوار تقف بينالمهرّج والمجنون… إنهم يتخلّون تدريجيا عن تأليه بورقيبة بعد أن استنفدت هذه البضاعة جميع فضائلهاالتأويلية.
فهل هو الاعتراف الصامت بأن الحداد قد طال أكثر من اللّزوم وأنّ الوقت قد حان لندع جثمان الفقيدالعظيم يستريح في ضريحه، وليغادر شبحه حلبة معارك الذاكرة ليلتحق، نهائيا، بالتاريخ؟إنّ وضع البلاد على مسار الديمقراطية يفترض أيضًا علمنة تاريخ الحقبة البورقيبية لتخليصها منرواسبها الميثولوجية.فبورقيبة ترك لنا قصة مقدسة وأسطورة تأسيسية كان يتقمّص فيها دور بيجماليون ونرسيس في الآن ذاته.فهو الذي صنع شخصية بورقيبة الزعيم وأحبّها كما لم يحبّها أحد. وهو مؤسس حزب تولى قيادة حركةالتحرير قبل أن يبني الدولة التي يعترف الجميع، اليوم، بما قامت به من إصلاحات حاسمة. وهو ما يعنيأنّ له ما يكفي من الأسباب ليعتبر نفسه مؤسسًا. لكن بورقيبة الذي كان يرى أنّ مكانه ليس أقلّ من عظماءالتاريخ، بداية من التونسي يوغرطة إلى الفرنسي ديغول، لم يكن يخلد بذهنه أنّ التونسي «ما بعدالاستعمار» هو ذلك الفرد الذي له حقوق يجدر به أن يدافع عنها، بل هو في عرفه مجرّد مدين للدولةالاجتماعية، لا بمعنى الرّعية تحديدا، وإنّما كمواطن ممتنّ للزعيم. ومعلوم أن الأوتوقراطية تتعطش إلىهذا الامتنان والاعتراف.
أمّا اليوم، فحتى الممجّدون للرئيس السابق لم يعودوا يؤمنون حقًا بهذه الرواية الوطنية التي طالما سردتبضمير الأنا الواحد، أو على الأقلّ، لم يعودوا يجرؤون على الإصداع بها علانية. فالثورة قد أعادت بشكلنهائي إدراج اسم الشعب في سجلات التاريخ.كنّا قد مررنا بفترة، وخاصة خلال حكم الترويكا وما بعدها بقليل، صارت فيها الأهواء الفكرية للمثقفينتحنّ بشكل متقطع إلى الأيام الخوالي، زمن كانت دولة بورقيبة منتصبة القامة (ولا ضير إن كانت تسلطيةبعض الشيء)، وزمنا كان فيه للزعامة … رونقها … وللرئاسة هيبتها. بيد أنّه علينا مقاومة أهواء العصروالتجرؤ على القول صراحة أنّ «سيرة» بورقيبة كانت محفوفة بالاستبداد، وأنّ ذكرى بورقيبة وما رافقهامن رغبة أو توق إلى دولة «قوية» من شأنه أن يهيّئ المناخات الملائمة لتقبّل العبودية الطوعية التي هيبصدد التّسلّل من ثقوب خيبة الأمل المبثوثة لدى شرائح واسعة من المجتمع. ومثل هذه المناخات تمثّلنعمة للفاعلين المتحفّزين لعودة النظام القديم وإن بمسميات أخرى.فإلحاق شبح بورقيبة بالمكان اللائق به حيث يرقد صاحبه هو اليوم شعار ديمقراطي.